إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 15 مارس 2011

بعض من جوانب الخصخصة وآثارها


ناصر الزيادات
باحث في الاقتصاد والتمويل الإسلامي – جامعة درم – المملكة المتحدة
Twitter: @nziyadat
تعتبر الرأسمالية بمثابة النظام الاقتصادي السائد في العالم. وحتى في الدول التي تتبنى نظام سياسي شيوعي مثل الصين هناك محاولات حثيثة لتعديل النظام الاقتصادي ليتماشى مع الرأسمالية على اعتبار أنها أثبتت نجاحها كنظام اقتصادي قادر على التحفيز والإنتاج والنمو. وقد اكتسبت الرأسمالية قوة أكبر بعد سقوط الأب الروحي للشيوعية في بدايات التسعينيات من القرن المنصرم وعندها عبر المفكر الأمريكي فوكوياما بفخر عن انتصار الديمقراطية والرأسمالية. إلا أن الغريب في الأمر، أنه وبعد مرور قرابة 18 عام على كتاب ومقالة فوكوياما  "نهاية التاريخ" عام 1990 نشر فوكوياما في مجلة نيوز ويك في العام 2008 مقالته الشهيرة "سقوط أمريكا" بشر فيها بسقوط الرأسمالية الأمريكية. فما الذي حصل بين فوكوياما 1990 وفوكوياما 2008؟
لقد مرت الرأسمالية بمراحل تطور متعددة لم تفقدها جوهرها إنما أدت بها إلى إنتاج أنواع مختلفة من الرأسمالية وهو ما يعرف بـ Varieties of Capitalism VOC  إلا أن الجوهر الأساس للرأسمالية التي ابتكرها آدم سميث عام 1776 بقيت على ما هي عليه مع تغييرات في أيديولوجيات الاقتصاد السياسي التي أدت إلى تنوع الرأس مالية.
والرأسمالية الكلاسيكية كما يراها آدم سميث تستند إلى وجود سوق تنافسية في الدولة تعطي الحرية للمنشآت في الإنتاج والتنافس وذلك من أجل إنتاج سلع ذات قيمة تنافسية للدولة تمكنها من تصدير منتجاتها إلى دول أخرى. ومن هنا فإن سميث وأتباعه مثل ريكاردو وغيرهم يؤمنون بأن السوق التنافسية الحرة تعطي حالة من التوازن بين العمالة ورأس المال والمشترين والبائعين مع ضرورة وجود تدخل حكومي محدود في هذه السوق من أجل ضبطها عند خروجها عن المألوف. إضافة إلى ذلك، فإن الرأسمالية تقوم على مبدأ هام وهو المصلحة الفردية Self-interest  التي إن تحققت ستتحقق المصلحة الجماعية للمجتمع وهذا هو أساس حرية السوق التي تتبناها الرأسمالية.
والسؤال الهام هنا، متى وإلى أي حد يمكن للحكومة أن تتدخل في هذه السوق؟ هذا السؤال شغل بال الكثير من النظريات السياسية والاقتصادية وأدى إلى وجود أيديولوجيات في الاقتصاد السياسي تم تبنيها على مر الزمان.
فبعد الحرب العالمية الثانية، كان هاجس الحكومات في الدول الغربية هو تجنب حدوث كساد عظيم مثل الذي حصل في ثلاثينيات القرن المنصرم. وعليه كانت الغالبية العظمى من تلك الحكومات تتبنى نظريات عالم الاقتصاد البريطاني كينز الذي تبنى ضرورة التدخل الحكومي في السوق لمنع الشركات من السلوكيات الخاطئة التي قد ينتج عنها أذى للاقتصاد والمجتمع. وقد استمرت النظرية الكنزية بحكم النظام الرأسمالي منذ عام 1945 حتى أوائل العقد 1970. وقد عرفت الأيديولوجية التي حكمت الاقتصاديات في تلك الفترة بالليبرالية المتضمنة Embedded Liberalism إشارة إلى وجود حرية في السوق مع تدخل حكومي عند الحاجة. وقد اشتهرت فترة تلك الأيديولوجية بالتدخل الحكومي المكثف في الكثير من الحالات. وكانت كل الأمور التي من شأنها أن تقدم الرفاه الاجتماعي للسكان بيد الدولة. كما أن ممتلكات الدول من قطاعات الصحة والاتصالات والمواصلات والتعليم والنفط وغيرها كانت تدار من قبل الدولة ولم يكن حد يتجرأ آنذاك بأن ينادي بنقل ملكية الدولة لتلك القطاعات الحيوية إلى القطاع الخاص لأنها ببساطة تمس حياة المواطن الاعتيادي الذي هو المحور الرئيس في الإنتاج والاستهلاك في النظام الرأسمالي. كما أن أيديولوجية الليبرالية المتضمنة لم تكن لتسمح بذلك لأنها كانت في نظر الكثير من متبنيها عبارة عن رأسمالية تشتمل على خصائص شيوعية.
وفي سبعينيات القرن المنصرم بدأ جدل واسع حول مدى نجاعة الليبرالية المتضمنة في تقديم حلول اقتصادية فعالة تضمن النمو الاقتصادي المستدام والرفاه الاجتماعي. لقد أدت عدة عوامل إلى نشوء مثل ذلك الجدل ومنها القوى المتعاظمة التي بدأت تكسبها الشركات لاسيما الدولية منها، كما أنه كان هناك قوى متعاظمة للحركات الاجتماعية التي فرضت بقوة المجتمع المدني العديد من القيود على عمل الشركات مثل أجور العاملين وظروف العمل وعمل المرأة والأمور البيئية والسلامة العامة وجودة المنتجات وغيرها. ومع تعاظم قوى الحركات الاجتماعية مترافقاً ومتضاداً مع تعاظم قوى الشركات كان لابد على الرأسماليين أن يوجدوا حلولاً أخرى تضمن مسيرة الرأسمالية بما يخدم مصالح أصحاب رؤوس الأموال بالدرجة الأولى.. فتم الترويج لما يعرف بالحوار بين مؤسسات المجتمع المدني والحكومة والشركات من أجل خلق رفاه اجتماعي جماعي بدلاً من أن تكون الدولة هي اللاعب الرئيس في تأمين وإدارة هذا الرفاه.
لقد أدت هذه العوامل بالرأسماليين إلى ابتكار أيديولوجية جديدة عرفت بالليبرالية الجديدة Neo-liberalism لحكم النظام الرأسمالي. وبدأ العمل على تلك الأيديولوجية من قبل البروفيسور فريدريك فون هايك وتلميذه ميلتون فريدمان في جامعة شيكاغو  . وبدعم مالي من عدة جهات رأسمالية تهمها ما ستنتجه الأيديلوجية الجديدة تم إنشاء الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث التي روجت للفكرة واظهرتها بشكل جميل لكافة الأطرف ذات العلاقة. وقد نجح مروجو الليبرالية الجديدة آنذاك في إقحامها في أجندة حزب المحافظين في أمريكا في عهد رونالد ريغان في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم وذلك من خلال تبنيها من قبل مركز هيريتيج فاونداشين الذي يصنع سياسات حزب المحافظين ويؤثر في السياسات العامة لأمريكا. وبالفعل تبنى ريغان هذه الأيديولوجية التي تقضي بمنح الحرية المطلقة للسوق في تنظيم أعماله من خلال نقل المخاطر عن كاهل الحكومة إلى كاهل المستهلك الذي بوعيه سيحدد الخبيث من الطيب في السوق. كما تقضي الأيديولوجية الجديدة بأن يكون نظام الرفاه الاجتماعي في الدولة مسؤولية جماعية وليست مسؤولية الحكومة بشكل خاص، هذا بالإضافة إلى خصخصة كافة القطاعات الحيوية التي تملكها وتديرها الدولة ونقل ملكيتها إلى القطاع الخاص.
وعلى الفور تبنت المرأة الحديدية المحافظة ماغريت تاتشر الليبرالية الجديدة وبدت عمليات خصخصة واسعة النطاق في المملكة المتحدة ومن ثم تبعها الكثير من دول العالم. فما الذي أنتجته عمليات الخصخصة وتولي القطاع الخاص مقدرات الشعوب خلال قرابة ثلاثة عقود من الزمن؟
1.    الخصخصة والليبرالية الجديدة توسع الفارق بين الغني والفقير
بعد قرابة 10 سنوات من الخصخصة والليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية  ارتفع دخل الـ 10% من الأمريكيين الأكثر غنى بحوالي 16% أما دخل الـ 5% الأكثر غنى في أمريكا فارتفع بحوالي 23% في حين أن دخل الـ 1% الأكثر غنى في أمريكا ارتفع بحوالي 50%. وكلما ارتفعنا بفئة النسبة المئوية من السكان كلما قل الدخل وذلك استنادا لنظرية باريتو التي تقول أن 20% من الناس يملكون دخل أو ثروات أجمالية تصل إلى 80% مما يملكه الجميع في حين أن 80% من الناس يملكون ثروات أو دخل يساوي 20% من إجمالي ما يملكه الناس.
أما بالنسبة للـ 80% من الأمريكيين فقد انخفض دخلهم السنوي نزولاً كلما انحدرت النسبة المئوية. وكان الـ 10% الأقل فقراً في أمريكا قد انخفض دخلهم قرابة 15%.
وفي عام 1997 اتسعت الفجوة بين الـ 1% الأكثر غنى وبين الـ 10% الأكثر فقراً ليحقق الغني 115 مرة زيادة عما يحققه الفقير.
وفي عام 1997 نشرت الأونتكاد تقريراً رصدت فيه اتساع الهوة بين الفقر والغنى في العديد من المجتمعات كنتيجة حتمية للعولمة التي نشرت الليبرالية الجديدة إلى العالم وروجت لها من خلال حرية التجارة وتدفق رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي. ولا تزال الهوة تتسع بين الغني والفقير في كافة أقطار العالم وفقا التقارير المتعددة لمنظمات الأمم المتحدة المعنية.
2.    الخصخصة والليبرالية الجديدة توقع الشعوب بين أنياب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي
في عصر الليبرالية المتضمنة لم يكن مطلوب من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التدخل في سياسات الدول الاقتصادية عند منحها قروض. لكن الليبرالية الجديدة جعلت من البنك الدولي والصندوق أداة للتدخل في مقدرات الشعوب. فما من حاصل على قرض إلا ويخضع لشروط المؤسستين الدوليتين ومن أهمها الخصخصة. مع العلم أن المؤسسين الكبار في المؤسستين الدوليتين هم من روج لليبرالية الجديدة. وعلنا نستذكر الموقف التاريخي  لمهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي الأسبق عندما رفض الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي وأخرج الاقتصاد الماليزي ببراعة من أزمة نمور آسيا في أواخر تسعينيات القرن المنصرم وجعل من اقتصادها واحدا من بين الأقوى في منطقة شرق آسيا، في حين أن من تبعوا الصندوق من الآسيويين لا يزالون يئنون تحت وطأة الشروط والتدخل في السياسات من قبل المؤسستين الدوليتين.
3.    الخصخصة تفتح المجال للمستثمر الدولي بتملك مقدرات الشعوب
من أبرز ما يميز قوانين الخصخصة عند صدورها في مراحلها الأولى القوة والمتانة من أجل حفظ حقوق المواطن. لكن سرعان ما تبدأ هذه القوانين بالتراخي مع الزمن وذلك بظهور أجيال جديدة في المجتمع لم تواكب بدايات الخصخصة. وعند التراخي يبدأ المستثمر الدولي بالتسلل إلى تلك الاستثمارات ويتحكم بمقدرات الشعوب ويفرض ما يريد على الحكومات لأنه وببساطة أقوى منها اقتصادياً وسياسياً.
ففي الأردن على سبيل المثال تمت خصخصة خدمات توزيع المياه، وتملكته فيما بعد شركة فرنسية. والآن يعاني الشعب الأردني من ارتفاع شديد في تكلفة فاتورة المياه، وفاتورة الهاتف المخصخص، وفاتورة الكهرباء المخصخصة، والوقود.. إلى غيرها من الاحتياجات الأساسية.. وهذا بالضرورة يؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعيشة التي لا يشعر بمرارتها إلا الذي عاصر عهد ما قبل الخصخصة وعهد ما بعدها.


4.    الخصخصة تعطي القطاع الخاص قدرات سياسية

ومن ناحية أخرى، فإن قطاع الأعمال الدولي وحتى المحلي أصبح يتمتع بقوى سياسية ضاغطة على الحكومات، فما من حكومة لا تخدم مصالحه إلا ويتم العمل على إسقاطها، وقد يصل الأمر في كثير من الأحيان بتعيين الحكومات التي تخدم مصالح فئة معينة من كبار رجال الأعمال الدوليين والمحليين، حتى أنه من النادر الآن أن لا تخلو حكومة من الحكومات من الأثرياء ورجال الأعمال وهذه سلبية أخرى من سلبيات الخصخصة. وما قصص الأردن دبي كابيتال إلا شكل من اشكال تغول القطاع الخاص والمستنفعين في القرار السياسي.
وفي أمريكا على سبيل المثال لا تجد رئيس يعد لحملته الانتخابية إلا ويخطب ود القطاع الخاص ولوبياته السياسية الضاغطة. وقد وصل الأمر إلى أن تكون غالبية إدارة بوش الإبن من كبار رجال الأعمال ومن ملاك الشركات الدولية الضخمة مثل ديك تشيني، ورامسفيلد وكوندوليزا رايس التي سمى بوش إحدى ناقلات النفط التابعة لشركاته على اسمها كونها الخادم الأمين له.
ولا ننسى أن لوبيات القطاع الخاص لا تزال تعيق الرئيس الإصلاحي باراك أوباما وتحاول أن تبتعد به عما يريد لأنه لا يخدم مصالحها، وكذلك هو الحال بالنسبة لبريطانيا، وفرنسا. كما أن هذا هو الحال في الكثير من بلداننا العربية.
5.    الخصخصة تعفي الحكومات من مسؤولياتها تجاه شعوبها
مهما بلغت قوة القوانين التي تنظم آليات الخصخصة وتحفظ حق المواطن والموظف في القطاع المخصخص، فإن هذه القوانين على مر السنين تخضع للتغيير وتصبح الكلمة الأولى والأخيرة للقطاع الخاص الذي يتصرف بما فيه مصلحة الملاك ولا يرى مصلحة فوق تلك المصلحة.
فبين الفترة والأخرى يتم الاستغناء عن موظفين بحجج مختلفة، أو يتم تخفيض على الرواتب، أو زيادة ساعات العمل، أو تخفيض التأمين الصحي أو غيرها من البدلات بحجج واهية. وهنا لا يجد الموظف من يدافع عن حقه خصوصاً في الدول التي لا يوجد فيها صوت لمؤسسات المجتمع المدني مثل دولنا العربية.
وهنا يكون الكاسب الأكبر الحكومات لا سيما غير المنتخبة أو المفروضة على الشعوب لأنها وببساطة خصخصت وتملكت بما يخدم مصالح رجال أعمالها ومن ثم أزاحت المسؤولية الاجتماعية عن كاهلها لتترك المواطن يطحن في طاحونة الليبرالية الجديدة.
الخصخصة الإدارية ربما تقدم حلولاً
ربما يقول قائل أن الخصخصة جيدة لتقدين خدمات أفضل مما تقدمه الحكومات لقدرة القطاع الخاص على إدارة الأمور. وهذا أمر ربما يكون في بعض الأحيان مقارباً للحقيقة ولكن ليس كل الحقيقة.
الحقيقة التي لا مناص عنها هي أن الحكومات وجدت من أجل خدمة الشعوب، وأيما حكومة لا تخدم شعبها لا حاجة لها.. هذا هو الأصل، ولكن عندما تكون هناك حكومة غير قادرة فعلاً على تشغيل وإدارة قطاع ما فبإمكانها أن تستعين بالقطاع الخاص في إدارة هذا القطاع دون اللجوء إلى بيعه وهذا ربما يجنب الشعوب الكثير من ويلات الخصخصة ويبقي الحكومات الغيورة مسؤولة عن مقدرات شعوبها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق