لماذا
العتب على البنوك الإسلامية؟----(2)
ناصر
الزيادات
Twitter: @nziyadat
على
إحدى المجموعات البريدية المختصة بالتمويل الإسلامي مررت إحدى الأخوات المقيمات في
لندن عبارة على لسان أحد المحامين البريطانيين الذي كان يشارك في أحد المؤتمرات
المتعلقة بالتمويل الإسلامي هناك، وكان مفاد تلك العبارة: "المسلمون يعرفون
كيف يلتفون على ربهم تماماً كما نعرف نحن كيف نلتف على قضاتنا". ومن المؤكد
أنه لا يقصد عامة المسلمين -وهذا واضح من فحوى الجملة التي قيلت أثناء مؤتمر يتعلق
بالتمويل الإسلامي- بل يقصد المؤسسات المالية الإسلامية التي تهيكل العقود المالية
التقليدية لكي تصبح "إسلامية".
تمثل
كلمة "إسلامية" حجر الزاوية الذي يبنى عليه أي نقاش يتعلق بالمؤسسات
المالية المتوافقة مع الشريعة. وكما أوضحنا في الجزء الأول من هذه المقالة، فإن هناك
فجوة واضحة بين مفهوم "إسلامية" في تصور العامة من جهة وبين الممارسات
"الإسلامية" للبنوك. وهذا بحد ذاته ينظر له في إطار ما يعرف بالنظرية
المؤسسية Institutional
Theory على أن مفهوم وممارسات البنوك الإسلامية لم ترق بعد
لمرحلة المؤسسية المجمع عليها والمقبولة قبولاً عاماً. ووفقاً للعالم ريتشارد سكوت
في موسوعة النظرية الاجتماعية (2004)، فإن النظرية المؤسسية تعنى بالنظر في المعايير والإجراءات والمبادئ
والقيم التي تتشكل حول مفهوم معين حتى يصبح هذا المفهوم مؤسساً وفقاً لتوافق
اجتماعي عليه.
وعليه، فإن وجود الخلاف
الواسع والانتقاد حول ممارسات البنوك "الإسلامية" ليس من قبل المسلمين
وحسب بل من قبل غيرهم مع اختلاف نواياهم يدعونا للنظر إلى الأطر والقيم والمبادئ
التي تستند إليها البنوك الإسلامية في عصرنا الحديث والتي جعلت تلك البنوك محل
انتقاد أو عدم توافق على كثير مما تقوم فيه.
الأمر الآخر الذي يفاقم من
مشكلة عدم التوافق على ممارسات البنوك الإسلامية هو وجود قانون إلهي يحكم عملها
متمثلاً بالشريعة الغراء ما يعني أن عمل البنوك الإسلامية من المفترض أنه مؤسس
بشكل لا يدع مجالا للشك من حيث التوافق عليه.
لماذا يستمر عدم التوافق
رغم وجود الشريعة؟
من خلال الاطلاع على آراء
الكثير من المنتقدين لعديد من ممارسات البنوك الإسلامية يمكن الجزم أن سبب عدم
التوافق على عملها ينبع من كون بعض ممارسات تلك البنوك لا تتناسب مع الشريعة
الغراء، أو تلتف عليها من خلال الالتفاف على مبادئها وقيمها وأخلاقها وفقاً
للمنتقدين المسلمين وغير المسلمين. ففي إحدى ورش العمل حول التمويل الإسلامي التي
كانت تعقد في العاصمة الأوروبية بروكسل، كان المحاضر يشرح آليات التورق لحضور من
غير المسلمين، فما كان منهم إلا أن مرروا أيديهم اليمنى من فوق رؤوسهم على آذانهم
اليسرى تعبراً منهم على أنه مجرد التفاف على الإقراض التقليدي الذي يعرفونه
جيداً!!! وفي المقابل نجد أن البنوك لا تزال تروج للتورق بل وتسمه في بعض الحالات
بأنه "تورق الخير". وهذا بلا شك من بعض الدلائل على الفجوة بين فهم كلمة "إسلامية"
وتطبيقاتها المصرفية المعاصرة. فما الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة؟
لقد نشطت في العقد الأخير
من الزمن الكثير من الجهود (التي يمكن وصفها بالمخلصة والله حسيبها) من أجل مأسسة
العمل المالي الإسلامي، أي الوصول به إلى نظام من معايير وقيم ومبادئ متوافق عليها
ومجمع عليها. فظهرت المعايير الشرعية، والمعايير القانونية من قبل ما يعرف بمؤسسات
البنية التحتية للصناعة المالية الإسلامية. إلا أن الناظر في تلك المعايير يجد أنها
تستند إلى مبدأ رئيس وهو دمج التمويل الإسلامي في النظام المالي العالمي ولا شيء
غيره. والأمر واضح جدا، فكلما ظهر معيار عالمي هبت تلك المؤسسات لكي تعمل على
أسلمته. فتخرج المعايير "إسلامية" الهيكل رأسمالية الروح والفكر
وبالتالي التطبيق.
وعلى الرغم من وجود تلك
المعايير، إلا أن الكثير من البنوك الإسلامية لا تزال غير ملتزمة بها، بل ملتزمة
بما تجده متوافق مع ما تريده أو ما يريده الإطار التشريعي الذي تعمل فيه. وفي
السياق الشرعي، أسهم المشايخ (ربما بدون قصد) في تعزيز مأسسة التمويل الإسلامي ضمن
النظام التقليدي وذلك من خلال بذل الجهود من أجل التغلب على أي عائق شرعي ضمن ما
يعرف بالمخارج الشرعية. فأصبح الأمر أشبه بالترقيع "الإسلامي" لنظام غير إسلامي وهذا ما وصفه الكثيرون
بـ "لي عنق الشريعة".
سمعت أحد المشايخ ذات مرة
يقول أن الهيئة الشرعية التي هو عضو فيها أصدرت فتوى معينة تلتزم بما نصت عليه
معايير (الأيوفي) الشرعية، فما كان من إدارة البنك إلا أن طلبت من الهيئة عدم
الالتزام بتلك المعايير والأخذ بغيرها من أجل تعديل الفتوى.. المدهش أن الهيئة
الشرعية غيرت الفتوى في نهاية الأمر استجابة لطلب إدارة البنك.. هذا ما نعلم ونأمل
أن لا يكون الخافي أعظم. الشاهد من هذه الحادثة أن للمشايخ دور بالغ الأهمية في
مأسسة التمويل الإسلامي ولكن باتجاه ربما ينحرف عما هو مترسخ في أذهان المجتمعات.
والأخطر من ذلك، أنه وفي
سياق النظرية المؤسسية يمكن لمجموعة من القيم المبادئ والأخلاقيات أن تتبدد أو
تموت وينشأ غيرها كبديل متوافق عليه.. هذا بالفعل يحصل للكثير من المفاهيم
الاجتماعية عند المجتمعات العلمانية، أما في مجتمعاتنا المسلمة، تبقى الشريعة هي
الأساس ويبقى من يخالفها أو يلتف عليها هو الحالة الشاذة.. لذلك لا يمكن بأي حال
من الأحول أن يستمر واقع الصناعة المالية الإسلامية المدمج في الرأسمالية
ومنظوماتها.
وحتى لا يظهر أننا نتجنى
على من أسهم في مأسسة التمويل الإسلامي، يجب أن نذكر أنه أصبح صناعة عالمية تمارس
عملها في كافة قارات العالم.. وهذا حق يجب إسناد فضله للجهود الخيرة التي يقول
أصحابها أنهم يقومون بذلك لفترة معينة تهدف ترسيخ الصناعة المالية الإسلامية على
مستوى عالمي ومن ثم يتم التدرج في إرجاع الصناعة إلى اصولها. لكن هذا التوجه أصبح
مثيراً للكثير من التخوفات، لأن التدرج أصبح باتجاه القيم والمبادئ الرأسمالية
وليس باتجاه الإسلامية، وهذا من أسباب تنامي الانتقاد.
ومن الأسباب التي من شأنها
تقوية ما يؤسس له من تمويل إسلامي ضمن العباءة الرأسمالية هو ضعف همة البنوك
الإسلامية والمؤسسات البحثية المعنية والسلطات التنظيمية وغيرها من الأطراف
المعنية في إيجاد مشروع متكامل وشمولي يدعم مأسسة التمويل الإسلامي وفقاً لقيمه
وأصوله الموثقة وليست المرقعة. بل إن البنوك الإسلامية غالباً ما توصف بضعف
الإبداع حتى وصل بها الأمر إلى تبني عقود المعاملات (الإسلامية) التي تمت هيكلتها
في البنوك العالمية الربوية ضمن عملياتها الإسلامية. وأصبحت تلك البنوك هي التي
تدير دفة الإبداع الترقيعي واصبح أصحاب الصناعة الأصليون مجرد مقلدون.
الفجوة الأخلاقية: دليل عملي
لنفرض -على سبيل الجدل- أن
البنوك الإسلامية مغلوبة على أمرها لكي تتعامل وفق إطار تشريعي وتنظيمي رأسمالي،
تبرر لها أسلوب المخارج الشرعية. لكن ماذا عن الأخلاق الخارجة عن إطار القانون؟
فالأخلاق في النظام الرأسمالي لا يشرع لها بل تترك لما يسمى بالتنظيم والانضباط
الذاتي للمؤسسات. وحيث أن البنوك الإسلامية تستند إلى هوية أخلاقية ألزمت بها
بمجرد أن اختار مؤسسوها طوعا أن يلتزموا بالشريعة الإسلامية وذلك من خلال النص
الصريح في النظام الأساسي لتأسيس تلك البنوك على أنها "تتوافق مع
الشريعة الإسلامية" . والمقصود هنا بالأخلاق ليس فقط مجرد
الابتعاد عن المحرمات بل إظهار السلوك الإسلامي الحميد في كافة المناحي. وهذا ما
يشكل بمجموعه معايير يحكم بها المجتمع المسلم على البنك بحكم أنه إسلامي.
ومن أهم المعوقات التي
تواجه البنوك الإسلامية في التزامها الأخلاقي الإسلامي أنها تعمل في نظام رأسمالي
له قيمه الأخلاقية التي تختلف في كثير من معطياتها جذرياً عن الأخلاق الإسلامية.
فالرأسمالية تنظر إلى الأمور من منظور مادي بحت مؤطر بإطار من الحرية المطلقة
ومستند إلى فلسفة المصلحة الفردية (self-interest)، وعليه فإن الهدف السامي لأي مدير رأسمالي هو تحقيق
الربح وفاءاً بعقد الوكالة بينه وبين الملاك الرأسماليين الذي لا يهمهم إلا الربح.
أما بالنسبة لنا نحن المسلمون، فلدينا هدف آخر غير الهدف المادي الدنيوي.. وهو
إرضاء الله جل وعلى من أجل تبوء درجات أفضل في الآخرة.
وما
يثير الانتباه، أن اقتصار دور البنوك الإسلامية على الربحية فقط ولا شيء سواها
أصبح يروج له من قبل بعض الباحثين والمنظرين للبنوك الإسلامية دون التطرق إلى
الوسائل والعمليات التي يتم من خلالها تحقيق الربح. ودون الحديث عن الإساءات التي تنتج
عن الممارسات الخاطئة التي ترافق"الحلال" في كثير من الأحيان.
ففي دراسة أجراها الباحثان
(حنفي و حبيب) ونشرت في مجلة (Journal of Business ethics) عام 2007 حول
الهوية الإسلامية للبنوك "الإسلامية" وشملت سبعة بنوك إسلامية خليجية
توصل الباحثان إلى أن هناك بنك إسلامي واحد فقط حصل على معدل فوق المتوسط في حين
أن البنوك الستة الباقية عانت الكثير من الفارق بين ما يظهروه من إفصاحات
"والهوية الإسلامية المثلى". وقد أجرى الباحثان دراستيهما على الإفصاحات
في التقارير السنوية للبنوك السبعة ولمدة ثلاث سنوات بالمقارنة مع مؤشر معياري لبعض
أخلاقيات البنوك الإسلامية. واشتمل مؤشر الباحثين على خمسة أمور: الالتزام تجاه
المجتمع، والإفصاح عن الرؤية والرسالة، والإسهام في الزكاة وإدارتها، والأعمال
الخيرية والقروض الحسنة، والمعلومات المتعلقة بالإدارة العليا. وقد فصل الباحثان
في مكونات المعايير الخمسة السالفة الذكر للوصول إلى النتائج الإحصائية للدراسة.
ورغم أن أخلاق البنوك
الإسلامية لا تقتصر على المؤشرات أعلاه، إلا أن الاطلاع على نتائج هذه الدراسة
يوحي لنا بالكثير من المؤشرات التي يمكننا أن نستند إليها في تحليل الفجوة
الأخلاقية بين كلمة إسلامية كما تنظر إليها المجتمعات ومسمى "إسلامية"
الذي تحمله البنوك. فدراسة الباحثين تستند إلى تحليل الإفصاحات في التقارير
السنوية وهذا بحد ذاته يمكن أن يكون مرتبط بخلل في استراتيجيات ومنهجيات الاتصال
التي تنتهجها تلك البنوك.. بمعنى آخر، أنها من الممكن أن تكون بالفعل ملتزمة بالهوية
الإسلامية إلا أنها تعاني من خلل في تواصلها مع مجتمعاتها.. وهذا أمر لا يجب قبوله
كعذر لتلك البنوك. فالتقارير السنوية تعد من قبل موظفي البنوك وتخضع لآليات عمل
وموافقات ومصادقات من أطراف متعددة تتسلسل من معدي التقارير الصغار لترتقي إلى
الإدارة العليا التي تصادق عليه وتمهره بخاتمها على أنه صالح للنشر. ومن هنا فمن
الواضح أن التركيز وكل التركيز لا يكون على إظهار الهوية الإسلامية بل على إظهار
البيانات المالية بما يتناسب مع الطموحات الرأسمالية للإدارة والملاك. أي أننا
عدنا لمربع القيم الرأسمالية وليس القيم الإسلامية.
ماذا لو انتهت الرأسمالية؟
ربما يظهر أن هذا السؤال
ليس في محله، لأننا لسنا بصدد مناقشة ما يجب أن تتبناه الحكومات. أو أنه ليس
منطقياً على اعتبار أن الرأسمالية هي النموذج الاقتصادي السائد في العالم. لكن
تجدر الإشارة إلى أن ما يشهده العالم العربي من أمور على الساحة السياسية لها
امتداد اقتصادي واجتماعي يرتبط بالرأسمالية. لقد كانت الرأسمالية سائدة في أمريكا
اللاتينية إلى أن غيرتها بعض شعوبها إما عن طريق الثورات أو عن طريق الديمقراطية.
ما يهمنا الآن هو، ماذا كان
سيفعل أي بنك إسلامي متواجد في فنزويلا قبل أن تتحول ديمقراطياً إلى دولة اشتراكية
ترفض كل مظاهر وقيم الرأسمالية؟ ولسنا هنا لنروج للاشتراكية، بل لنضع أمام صناع
القرار سيناريو هام جداً وإن كان يبدو على أنه بعيد المنال إلا أنه قابل للحدوث في
زمن التغيرات المتسارعة. وفي مثل تلك الحالة، هل ستقوم مؤسسات البنية التحتية بوضع
معايير جديدة تحت عباءة الاشتراكية؟؟ ونبدأ من جديد رحلة التدرج في المأسسة
المرقعة؟؟؟!!! وهل من الممكن أن نرى حينها مخارج شرعية تتناسب مع ما يريده
الرفاق؟؟
زمزم في بلدي لكن من يقنع الناس بجدوى زمزم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق