إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 31 ديسمبر 2012


لماذا العتب على البنوك الإسلامية؟----1
ناصر الزيادات
مقدمة:
تشير العديد من التقارير الغربية أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كان لها أثر كبير في النمو غير المسبوق من حيث الطلب على الخدمات المصرفية الإسلامية. فمنهم من فسرها اجتماعيا بأن الشعور بالإسلام من قبل المسلمين أصبح يتزايد بعد تلك الأحداث، ومنهم من فسرها سياسياً، بأن الأموال العربية (أو الإسلامية بحكم أصحابها وليس تعاملاتها) التي كانت لدى الغرب وأمريكا بالتحديد لم تعد بمأمن من تهديد التجميد العشوائي الذي مارسته إدارة بوش، وبالتالي فإن تلك الأموال عادت إلى مكانها على شكل إسلامي. ومن التقارير من جمع بين هذين العنصرين (السياسي والاجتماعي) وأضاف إليهما عنصر اقتصادي يتمثل في تنامي معدلات فوائض السيولة الناتجة عن الارتفاع المطرد في أسعار النفط خلال العقد الأخير من الزمن.
وفي حقيقة الأمر، أن الغرب ومن يحذو حذوهم التفسيري والإدراكي من بني جلدتنا، لم يدركوا حتى الآن الأسباب الكامنة وراء زيادة الطلب على التمويل الإسلامي. وذلك لأن التفكير الغربي لا يستشعر أن لدى نماذجه أخطاء تستدعي التصحيح إلا إذا أتى التنبيه من قبل شخص من غير المنظومة الغربية (وفقاً لمقالة علمية لشيرار و بلازو وهما مختصان بالاقتصاد السياسي).
إن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن التمويل الإسلامي نما تاريخياً باطراد منذ الألفية الجديدة لكنه لم ينمو بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فهذه قصة وتلك قصة أخرى. الحقيقة أنه في بدايات الألفية الجديدة تراكمت الكثير من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي وفرت مناخاً جيداً للطلب على البنوك الإسلامية. وكان الدافع الرئيس لهذا التراكم هو تبني غالبية الدول العربية والإسلامية لسياسات النيوليبرالية (أو الليبرالية الجديدة) وهي عقيدة في الاقتصاد السياسي تدعو إلى إطلاق العنان للقطاع الخاص وتحرير الأسواق من القيود والتدخل الحكومي وفتح الاستثمارات الأجنبية على مصراعيها وتبني سياسات الخصخصة. وحيث أن غالبية الدول العربية والإسلامية كانت ترزح تحت أوضاع اقتصادية سيئة، فقد لجأت للاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان يعتبران بمثابة المحراكات العالمية للسياسات النيوليبرالية الأمريكية. فالشرط الرئيس لإقراض الدول أن تخضع لبرامج من "الإصلاحات الاقتصادية" (كما تسميها المؤسستان الدوليتان) تنتهج من خلالها الدولة المقترضة سياسات النيوليبرالية.
لقد ازداد توجه الدول العربية نحو الليبرالية الجديدة منذ التسعينيات بعد انهيار الأب الروحي للمعسكر الاشتراكي، فأصبح العالم كله معولم على الطريقة الأمريكية في الحياة. وزاد انتهاج الدول العربية لاعتناق المنهج الاقتصادي الجديد ورحبت به الشعوب على أمل أن يحدث فرقاً واضحا على مستوى معيشة المواطن البسيط الذي يشكل الغالبية العظمى من السكان. ومع مرور الزمن أصبحت المعالم الجديدة للاقتصاديات العربية تأخذ بالتبلور: تنامي سطوة القطاع الخاص، جشع التجار، سيطرة المستثمر الأجنبي على مقدرات الشعوب، زيادة الأسعار، فساد مالي وسياسي... إلخ. لقد أصبح المواطن العربي يعمل جل يومه لكي يستطيع أن يؤمن لقمة العيش فاندثرت الكثير من القيم الاجتماعية مثل الإخاء والمحبة والتكافل، وأصبح الأب لا يرى أولاده بل لا يتمكن من أن يرى والديه ليكسب برهما. وأصبح الحصول على المال أمر ضروري لتلبية متطلبات الحياة. وكان لهذه التغييرات في نمط الحياة آثار بالغة على طريقة التفكير من حيث كسب المال وتولي الفرد لمسؤولياته الاجتماعية في دول كان من المفترض أنها هي من يتولى تلك المسؤوليات. وفي رحلة البحث عمن يحمل بعضاً من تلك المسؤوليات عن كاهل المواطن، ظهرت البنوك الإسلامية وتنامى الطلب عليها ورافق أملا من العملاء المسلمين بأن "إسلامية" البنوك ستحقق لهم العدالة المالية المطلوبة. ورغم أن العميل للبنوك الإسلامية ربما يطالبها بأكثر مما يتوجب عليها فعله، إلا أن البنوك الإسلامية ظهرت بنسخة نيوليبرالية لا يهمها إلا تحقيق الربح (وربما الفاحش في بعض الأحيان) ولا شيء غير الربح. وهنا ظهرت فجوة بين ما يأمله العميل الإسلامي وما يقدمه البنك الإسلامي. وهذه الفجوة تقتضي أن نزجي رسائل عتاب للبنوك الإسلامية مترافقة مع رسائل توعيه للعملاء من أجل الوصول إلى منطقة وسط بين ما هو مأمول وما هو مقدم من قبل البنوك الإسلامية.

النيوليبرالية والنظام المالي

من المعلوم تماماً أن أحد أهم أركان الرأسمالية بشكل عام، والنيوليبرالية كعقيدة بشكل خاص، هو تشكيل نظام مالي يسهل تحريك الأموال والاستثمار بها ولو بطريقة مصطنعة بعيداً عن الاقتصاد الحقيقي. بل إن (هارفي) مؤلف كتاب (A Brief History of Neo-liberalism) يعتقد أن مكونات النيوليبرالية انبثقت من حادثة إحجام البنوك عن إقراض ولاية نيويورك الأمريكية في الثمانينيات من القرن المنصرم ما أدى إلى بروز الكثير من الأمور التي تسمى الآن تسويق الاستثمار الأجنبي لجعل مدينة نيويورك أنذلك تصبح شركة نيويورك (New York , Inc).
وتركز العقيدة النيوليبرالية على تخفيف القيود التشريعية على النظام المالي وتشجيع المبادرات التشريعية الذاتية غير الملزمة على مستوى الصناعة مع التركيز على التعاملات على مستوى العقود ما أدى إلى ارتفاع تكلفة التعاملات (كل معاملة تحتاج إلى مراجعة من محام مختص) كما أن النيوليبرالية أطلقت العنان لما تسميه الابتكار المالي (الهندسة المالية) من خلال المشتقات فنجدها مميزة جداً في تنامي عدد التعاملات في المشتقات وأنواعها بأضعاف أضعاف ما كانت عليه فيما قبل النيوليبرالية ما أدى إلى ازدياد الفارق بين النمو الاقتصادي الحقيقي والنمو في التعاملات المالية. يقول أحدهم متندراً: "لو أخذت حذاء الزيدي إلى سوق المشتقات يمكنني أن أجري عليه ابتكارات بمليارات الدولارات ليتداولها أغبى المستثمرين في العالم". وفي الحقيقة أن المستثمر ليس غبياً إلى هذا الحد بل هو بحكم النيوليبرالية الذهنية المترسخة لديه: "طماع" إلى درجة الغباء، ولا أدل على ذلك من الاستثمارات الغبية التي ذهبت أدراج الرياح خلال الأزمة المالية العالمية. كما فتحت النيوليبرالية الآفاق أمام مكافآت المدراء الذين أصبحوا يبتكروا أخطر وأتفه الأدوات التي تدر دخلا للمؤسسة فقط من أجل الحصول على المكافأة نهاية العام بغض النظر عما يحصل للاقتصاد والمجتمع من آثار سلبية.

لماذا نمت البنوك الإسلامية بقوة بعد عام 2000؟

أذكر أننا كنا في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم نتندر على من يفتح حساباً مصرفياً في البنك. لأننا ببساطة كنا نرى أنه لا داعي للدخول في الحرام طالما أننا نستطيع أن نتدبر أمورنا بعيداً عنه. وكنا نحزن على أولئك (المتورطين) في التعامل مع البنوك وننظر لهم بعين الشفقة: "مسكين ماخذ قرض ومتورط".
وفي ظل النيوليبرالية أصبح من لا يأخذ قرضا هو الشاذ، بل أصبح الحساب المصرفي أول الشروط التي يجب عليك أن تلبيها حتى تحصل على راتبك. لقد أضفت علينا النيوليبرالية الكثير من المفاهيم الترفية المصطنعة التي لم تكن أصلا موجودة في مجتمعاتنا. كما أنها أسهمت في إحداث فجوة كبيرة بين طبقتين في المجتمع، طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء، الأمر الذي جعل الفقير دائماً يفكر في تحسين وضعه أو تقليد الغني ولكن من خلال القروض (بشكل يشابه تماماً ما يسمى بالحلم الأمريكي). لقد أصبحت القروض جزء لا يتجزأ من حياتنا المصطنعة. فانظروا وتأملوا الإعلانات التي تطل علينا بها البنوك بين الحين والآخر ضمن ما تسميه إبداعاً لتلبية احتياجاتنا (ملء جيوبهم).
ولما كان لزاماً على مختلف الفئات العاملة من الشعوب العربية أن تتعامل مع البنوك سواء كمودعين (لتحويل رواتبنا على أقل تقدير) أو مقترضين لتمويل احتياجاتها الحقيقية والمصطنعة في ظل ظروف النيوليبرالية أنشأت الشعوب بحسها الإسلامي طلباً على المصارف الإسلامية. نعم الشعوب هي من أنشأ الطلب عليها وما زلت تعزز ذلك الطلب ، وهم بغالبيتهم من البسطاء من أصحاب المداخيل البسيطة والمتوسطة، وليست حكوماتهم التي كان أغلبها لا يعترف بالبنوك الإسلامية قبل عام 2000 أو قلة قليلة منها تشرع لها تشريعات خاصة في أفضل الأحوال. ومن هنا حضرت البنوك الإسلامية بقوة في عالمنا العربي حتى أصبحت تشكل توجها جاذباً لرجال الأعمال الذين لا يؤمنون بها حتى يركبوا الموجة ويلبوا طلبنا، بل إن البنوك الربوية العالمية فتحت لها فروعاً إسلامية في بلداننا (كرمال عيوننا!).
ومن جهة أخرى، هناك اعتقاد شعوري يعتري المواطن العربي المسلم عند خلقه الطلب على التمويل الإسلامي: إنه الشعور بأن "الإسلام" هو الذي سيقدم له حلولاً للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي خلقتها النيولويبرالية (مع التشديد أن غالبية الشعوب العربية لا تعرف معنى ما هي النيوليبرالية بل هي تعيشها وتعيش آثارها وتعبر عنها بطرق مختلفة).

البنوك الإسلامية والنيوليبرالية الرأسمالية؟

تعزز النيوليبرالية أجواء غير مسبوقة في حرية الأسواق وهو ما يتم استغلاله بطرق لا أخلاقية من قبل القطاع الخاص. ولا أدل على "اللاأخلاقية" من ممارسات المؤسسات المالية الدولية الكبرى التي أدت إلى الأزمة المالية العالمية. ومن أهم البواعث على "اللاأخلاقية" هي مبادئ النيوليبرالية التي تحد من تدخل الحكومات في حالة الإساءة من قبل القطاع الخاص، وتنامي القوة السياسية للقطاع الخاص بما يجعله قادر على إحباط أي محاولة للتدخل الحكومي، وبالتالي تبقى "المصلحة الفردية" هي المحفز الرئيس للعمل. وهنا يطلق العنان للمصلحة الفردية لكي تعمل فقط فيما يتناسب معها. فلو توافقت الأخلاق مع المصلحة الفردية كان بها، وإلا فالمصلحة تقتضي أن تحقق تلك المؤسسات الربح بأقل قدر ممكن من الالتزام بأي قيود. ولذلك ظهرت مبادرات حول مبادئ الاستثمار المسؤول، والحوكمة و المسؤولية الاجتماعية والبيئية، والتنمية المستدامة وغيرها. لكنها كلها تقع ضمن إطار المبادئ غير الملزمة أو التي تطبق بشكل اختياري من قبل القطاع الخاص حرصاً على إبقاء الأسواق حرة دون تدخل حكومي، وحرصاً على تلميع الصورة المشوهة للشركات الكبرى التي تنهب الثروات وتلوث البيئة.
أما على صعيد الصناعة المالية الإسلامية، فالتدخل الحكومي يكاد يكون معدوم لاسيما في مسألة العمل الشرعي. فالحكومات -على ما يبدو- لا تعير أية أهمية لكي تتحقق من أن البنوك الإسلامي إسلامية بالفعل. بل هي تتحقق فقط وبشكل كبير من أن البنك الإسلامي يعمل بما يتوافق مع النظام الرأسمالي وتشرع عمله وتراقبه وفقاً لذلك فقط. أي أن الحكومات لها دور كبير في أن تجعل البنوك الإسلامية ملتزمة بمبادئ الرأسمالية ولا يهمها إن كانت بالفعل ملتزمة بالمبادئ الإسلامية.
لقد ترك أمر التحقق من "إسلامية" البنوك الإسلامية إلى ما يعرف بالتنظيم الذاتي للصناعة (Self-regulation) . أي أنها هي من ينظم نفسها من الناحية الشرعية بنفسها استناداً إلى أن الالتزام الشرعي عمل أخلاقي لا يقنن شأنه شأن المسؤولية الاجتماعية، مع العلم أن الالتزام الشرعي أمر مقنن في الشريعة الغراء.  وبناءاً عليه جاءت المعايير الشرعية الصادرة عن المجلس الشرعي التابع لـ (ايوفي). لكن بقيت هذه المعايير من دون حسب أو رقيب على مدى الالتزام بها. أي بمعنى آخر، من الذي يطمئن عملاء البنوك الإسلامية عن مدى "إسلامية" تلك البنوك. بل إن هناك الكثير من الشواهد تدل على أن المعايير الشرعية (أيوفي) يتم تجاهلها من قبل الشرعيين إذا ما تعارضت مع أسلوب وسير عمل البنوك، وهذا بحد ذاته سلوك رأسمالي نيوليبرالي يسعى فقط لتحقيق المصلحة الفردية للمؤسسة.
وعندما نتنازل لنقبل بأن المؤسسات المالية الإسلامية أخلاقية فقط وعليها أن تراقب أخلاقياتها الشرعية بنفسها، نجد أن هناك الكثير من سلوكيات تلك المؤسسات غير أخلاقية.. فقد كشفت الأزمة المالية عن كثير من التجاوزات من قبل المدراء (تمويلات من تحت الطاولة، تعارض في المصالح، سوء إدارة، استغلال غير مبرر للأموال، استئجار طائرات خاصة، بل وحتى الاختلاس في بعض الأحيان). وعند سؤالنا للمشايخ: لماذا حصل هذا بمؤسساتكم؟ يقولون لنا: الرقابة على هذه الأمور ليست من اختصاصنا. نعم في الحقيقة هي ليست من اختصاصهم في ضوء الوضع الراهن الذي يحصر اختصاصهم في مراجعة العقود والرقابة على تنفيذها (إن تمت الرقابة). لكن هذا لا يعطي العميل المسلم الجواب على سؤاله: لماذا تصرفت البنوك الإسلامية بطريقة غير إسلامية، أو لماذا لم تختلف البنوك الإسلامية عن نظيراتها التقليدية في زمن النيوليبرالية؟ ومن هو المسؤول عن رقابة مثل تلك التصرفات؟؟ هذه الأسئلة تبقى مفتوحة بدون إجابات.
ومن جهة أخرى، فإن النيوليبرالية تدعو إلى التركيز على عقود التعاملات بدلا من التركيز على التشريعات لتنظيم الأعمال. وهذا بحد ذاته يفرض تكاليف إضافية على رسوم المعاملات من حيث المراجعات القانونية لتلك العقود التي تضاعف عددها مئات المرات عما كانت عليه في عصر ما قبل النيوليبرالية.
وفي حالة الصناعة المالية الإسلامية، نجد بنوكنا ومؤسساتنا تنتهج نفس النهج: التركيز على العقود والتقليل من القيود. فكل معاملة بعقد، وكل عقد له ملابساته الخاصة، وكل عقد يحتاج إلى مصادقة الهيئة الشرعية قبل الإبرام. وكل عقد له تكاليف إضافية ناتجة عن المراجعة الشرعية. وعندما تتم المطالبة بتنميط العقود يهب بعض المستنفعون للذود عن عدم التنميط، لأنه ببساطة يتعارض مع مصالح جيوبهم حتى لو أثرت على تكلفة المعاملة على العميل النهائي.

وتركز النيوليبرالية على الابتكار في العقود المالية إلى درجة جعلها مصطنعة أكثر مما هي حقيقية. أي أنها تخلق فارق كبير بين أحجام تعاملاتها وبين النمو الاقتصادي الحقيقي (وهذا من أهم أسباب الأزمة المالية العالمية). كما أن تلك العقود تركز على مسألة نقل المخاطر بطرق غير عادلة إلى أطراف أخرى في السوق بما يؤدي إلى حالات من عدم الاتزان بين الرابحين (وهم قلة) والخاسرين (وهم الأغلبية).
أما الابتكار في الصناعة المالية الإسلامية أصبح ابتكار على مستوى العقود فقط بما يضمن الالتفاف على تقليل المخاطر وتعظيم الأرباح ولكن بمسميات إسلامية. فعقد الوكالة بالاستثمار يحمل اسماً غاية في الرمزية (وكالة واستثمار = تفويض بالإعمار) لكنه في حقيقة الأمر لا يعدو أن يكون عقد تمويل بحت يشوبه الكثير من شبهات الربا بل إنه يحول المستثمر إلى دائن والوكيل إلى مدين بحيل يرفضها العقل المسلم البسيط. ومن هنا أصبح التركيز على العقود والمخارج الشرعية فيها هو أهم أعمال الخبراء الشرعيين لكي تصبح المؤسسات المالية الإسلامية نيوليبرالية أكثر من غيرها. بل إن أحجاماً كثيرة من تلك العقود لم تكن ترتبط بنشاط اقتصادي حقيقي يخدم التنمية.
وفي ضوء النيوليبرالية التي تعزز السلوك الاستهلاكي الترفي للمجتمعات، تجد البنوك في ذلك سوقاً خصبة لتشجيع التمويل الترفي للأفراد، وتحرص على اقتناء كل عميل لها لبطاقة ائتمان، بل إن الحصول على القرض أصبح بسرعة رمشة العين.
وهنا نجد البنوك الإسلامية تمشي بنفس الخطى، تسعى للتمويل الترفي الاستهلاكي، وتمنح بطاقات ائتمان للقاصي والداني، بل وتغالي في ابتكارات العقود حتى تقحم مفهوم التورق في كل عمل من أعمالها لأجل تحقيق مثل تلك التمويلات مع إلقاء الجزء الكبير من المخاطر على كاهل أطراف أخرى. حتى أن البنوك الإسلامية كانت تتنافس فيما بينها لتمويل العطور والبخور إلى ما قبل الأزمة بدلاً من تمويل المشروعات الصغيرة

لماذا نعتب على البنوك الإسلامية؟
علينا أن نجمع على حقيقة مستحقة للبنوك الإسلامية وهي أنها مؤسسات ربحية وغير خيرية. لكننا نريدها ربحية وغير نيوليبرالية. فكيف نصل إلى ذلك مع إدراكنا أننا في عصر عولمة النيوليبرالية صارت البنوك الإسلامية جزءاً منها أو صورة لها.
لقد رفعت البنوك المتوافقة مع الشريعة شعار "الإسلام" في زمن العلمانية الاقتصادية.. وهو شعار تحلم به الشعوب العربية المسلمة لأنه يعيش في ضمائرها ومتأصل في فطرتها. لكن على ما يبدو أن الشعوب اصطدمت بواقع هام مفاده أن طرق المعاملات والسلوكيات التي تنتهجها البنوك لكي تكون "إسلامية" لم ترق بعد إلى مستوى تحقيق طموحات الشعوب المسلمة، أو بمعنى آخر: أن كلمة "إسلامية" الموجودة على بروشورات وأسماء وأوراق وتعاملات البنوك لا تسواي كلمة "إسلامية" التي تعيش في ضمائر الشعوب. 
 وما بين دلالات "الإسلامية" لدى البنوك واستحقاقات "الإسلامية" لدى الشعوب هناك فجوة لا بد من ملئها حتى تتمكن الصناعة المالية الإسلامية من المضي في نموها. لكن ملء هذه الفجوة لا يمكن أن يكون على حساب إسقاط الصناعة المالية الإسلامية كما يدعو البعض، بل عن طريق تجسير المفاهيم للوصول إلى متطلبات واستحقاقات شعار "الإسلامية" الذي تحمله مؤسسات الصناعة.
ومن المعلوم أن تجسير المفاهيم لا يأتي إلا من جراء تفاعل حقيقي ومثمر لكافة الأطراف ذات العلاقة بالصناعة، يضع فيه الجميع المصالح الفردية، ويخطط فيه الجميع لمصلحة عامة تضع نصب أعينها أن الكل بحاجة للكل لكي يتم إعمار الأرض وتحقيق التنمية المنشودة.... (يتبع في العدد القادم)

لماذا العتب على البنوك الإسلامية؟----(2)
ناصر الزيادات
Twitter: @nziyadat
على إحدى المجموعات البريدية المختصة بالتمويل الإسلامي مررت إحدى الأخوات المقيمات في لندن عبارة على لسان أحد المحامين البريطانيين الذي كان يشارك في أحد المؤتمرات المتعلقة بالتمويل الإسلامي هناك، وكان مفاد تلك العبارة: "المسلمون يعرفون كيف يلتفون على ربهم تماماً كما نعرف نحن كيف نلتف على قضاتنا". ومن المؤكد أنه لا يقصد عامة المسلمين -وهذا واضح من فحوى الجملة التي قيلت أثناء مؤتمر يتعلق بالتمويل الإسلامي- بل يقصد المؤسسات المالية الإسلامية التي تهيكل العقود المالية التقليدية لكي تصبح "إسلامية".
تمثل كلمة "إسلامية" حجر الزاوية الذي يبنى عليه أي نقاش يتعلق بالمؤسسات المالية المتوافقة مع الشريعة. وكما أوضحنا في الجزء الأول من هذه المقالة، فإن هناك فجوة واضحة بين مفهوم "إسلامية" في تصور العامة من جهة وبين الممارسات "الإسلامية" للبنوك. وهذا بحد ذاته ينظر له في إطار ما يعرف بالنظرية المؤسسية Institutional Theory على أن مفهوم وممارسات البنوك الإسلامية لم ترق بعد لمرحلة المؤسسية المجمع عليها والمقبولة قبولاً عاماً. ووفقاً للعالم ريتشارد سكوت في موسوعة النظرية الاجتماعية (2004)، فإن النظرية المؤسسية تعنى بالنظر في المعايير والإجراءات والمبادئ والقيم التي تتشكل حول مفهوم معين حتى يصبح هذا المفهوم مؤسساً وفقاً لتوافق اجتماعي عليه.
وعليه، فإن وجود الخلاف الواسع والانتقاد حول ممارسات البنوك "الإسلامية" ليس من قبل المسلمين وحسب بل من قبل غيرهم مع اختلاف نواياهم يدعونا للنظر إلى الأطر والقيم والمبادئ التي تستند إليها البنوك الإسلامية في عصرنا الحديث والتي جعلت تلك البنوك محل انتقاد أو عدم توافق على كثير مما تقوم فيه.
الأمر الآخر الذي يفاقم من مشكلة عدم التوافق على ممارسات البنوك الإسلامية هو وجود قانون إلهي يحكم عملها متمثلاً بالشريعة الغراء ما يعني أن عمل البنوك الإسلامية من المفترض أنه مؤسس بشكل لا يدع مجالا للشك من حيث التوافق عليه.
لماذا يستمر عدم التوافق رغم وجود الشريعة؟
من خلال الاطلاع على آراء الكثير من المنتقدين لعديد من ممارسات البنوك الإسلامية يمكن الجزم أن سبب عدم التوافق على عملها ينبع من كون بعض ممارسات تلك البنوك لا تتناسب مع الشريعة الغراء، أو تلتف عليها من خلال الالتفاف على مبادئها وقيمها وأخلاقها وفقاً للمنتقدين المسلمين وغير المسلمين. ففي إحدى ورش العمل حول التمويل الإسلامي التي كانت تعقد في العاصمة الأوروبية بروكسل، كان المحاضر يشرح آليات التورق لحضور من غير المسلمين، فما كان منهم إلا أن مرروا أيديهم اليمنى من فوق رؤوسهم على آذانهم اليسرى تعبراً منهم على أنه مجرد التفاف على الإقراض التقليدي الذي يعرفونه جيداً!!! وفي المقابل نجد أن البنوك لا تزال تروج للتورق بل وتسمه في بعض الحالات بأنه "تورق الخير". وهذا بلا شك من بعض الدلائل على الفجوة بين فهم كلمة "إسلامية" وتطبيقاتها المصرفية المعاصرة. فما الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة؟
لقد نشطت في العقد الأخير من الزمن الكثير من الجهود (التي يمكن وصفها بالمخلصة والله حسيبها) من أجل مأسسة العمل المالي الإسلامي، أي الوصول به إلى نظام من معايير وقيم ومبادئ متوافق عليها ومجمع عليها. فظهرت المعايير الشرعية، والمعايير القانونية من قبل ما يعرف بمؤسسات البنية التحتية للصناعة المالية الإسلامية. إلا أن الناظر في تلك المعايير يجد أنها تستند إلى مبدأ رئيس وهو دمج التمويل الإسلامي في النظام المالي العالمي ولا شيء غيره. والأمر واضح جدا، فكلما ظهر معيار عالمي هبت تلك المؤسسات لكي تعمل على أسلمته. فتخرج المعايير "إسلامية" الهيكل رأسمالية الروح والفكر وبالتالي التطبيق.
وعلى الرغم من وجود تلك المعايير، إلا أن الكثير من البنوك الإسلامية لا تزال غير ملتزمة بها، بل ملتزمة بما تجده متوافق مع ما تريده أو ما يريده الإطار التشريعي الذي تعمل فيه. وفي السياق الشرعي، أسهم المشايخ (ربما بدون قصد) في تعزيز مأسسة التمويل الإسلامي ضمن النظام التقليدي وذلك من خلال بذل الجهود من أجل التغلب على أي عائق شرعي ضمن ما يعرف بالمخارج الشرعية. فأصبح الأمر أشبه بالترقيع "الإسلامي" لنظام غير إسلامي وهذا ما وصفه الكثيرون بـ "لي عنق الشريعة".
سمعت أحد المشايخ ذات مرة يقول أن الهيئة الشرعية التي هو عضو فيها أصدرت فتوى معينة تلتزم بما نصت عليه معايير (الأيوفي) الشرعية، فما كان من إدارة البنك إلا أن طلبت من الهيئة عدم الالتزام بتلك المعايير والأخذ بغيرها من أجل تعديل الفتوى.. المدهش أن الهيئة الشرعية غيرت الفتوى في نهاية الأمر استجابة لطلب إدارة البنك.. هذا ما نعلم ونأمل أن لا يكون الخافي أعظم. الشاهد من هذه الحادثة أن للمشايخ دور بالغ الأهمية في مأسسة التمويل الإسلامي ولكن باتجاه ربما ينحرف عما هو مترسخ في أذهان المجتمعات.
والأخطر من ذلك، أنه وفي سياق النظرية المؤسسية يمكن لمجموعة من القيم المبادئ والأخلاقيات أن تتبدد أو تموت وينشأ غيرها كبديل متوافق عليه.. هذا بالفعل يحصل للكثير من المفاهيم الاجتماعية عند المجتمعات العلمانية، أما في مجتمعاتنا المسلمة، تبقى الشريعة هي الأساس ويبقى من يخالفها أو يلتف عليها هو الحالة الشاذة.. لذلك لا يمكن بأي حال من الأحول أن يستمر واقع الصناعة المالية الإسلامية المدمج في الرأسمالية ومنظوماتها.
وحتى لا يظهر أننا نتجنى على من أسهم في مأسسة التمويل الإسلامي، يجب أن نذكر أنه أصبح صناعة عالمية تمارس عملها في كافة قارات العالم.. وهذا حق يجب إسناد فضله للجهود الخيرة التي يقول أصحابها أنهم يقومون بذلك لفترة معينة تهدف ترسيخ الصناعة المالية الإسلامية على مستوى عالمي ومن ثم يتم التدرج في إرجاع الصناعة إلى اصولها. لكن هذا التوجه أصبح مثيراً للكثير من التخوفات، لأن التدرج أصبح باتجاه القيم والمبادئ الرأسمالية وليس باتجاه الإسلامية، وهذا من أسباب تنامي الانتقاد.
ومن الأسباب التي من شأنها تقوية ما يؤسس له من تمويل إسلامي ضمن العباءة الرأسمالية هو ضعف همة البنوك الإسلامية والمؤسسات البحثية المعنية والسلطات التنظيمية وغيرها من الأطراف المعنية في إيجاد مشروع متكامل وشمولي يدعم مأسسة التمويل الإسلامي وفقاً لقيمه وأصوله الموثقة وليست المرقعة. بل إن البنوك الإسلامية غالباً ما توصف بضعف الإبداع حتى وصل بها الأمر إلى تبني عقود المعاملات (الإسلامية) التي تمت هيكلتها في البنوك العالمية الربوية ضمن عملياتها الإسلامية. وأصبحت تلك البنوك هي التي تدير دفة الإبداع الترقيعي واصبح أصحاب الصناعة الأصليون مجرد مقلدون.  
الفجوة الأخلاقية: دليل عملي
لنفرض -على سبيل الجدل- أن البنوك الإسلامية مغلوبة على أمرها لكي تتعامل وفق إطار تشريعي وتنظيمي رأسمالي، تبرر لها أسلوب المخارج الشرعية. لكن ماذا عن الأخلاق الخارجة عن إطار القانون؟ فالأخلاق في النظام الرأسمالي لا يشرع لها بل تترك لما يسمى بالتنظيم والانضباط الذاتي للمؤسسات. وحيث أن البنوك الإسلامية تستند إلى هوية أخلاقية ألزمت بها بمجرد أن اختار مؤسسوها طوعا أن يلتزموا بالشريعة الإسلامية وذلك من خلال النص الصريح في النظام الأساسي لتأسيس تلك البنوك على أنها "تتوافق مع الشريعة الإسلامية" . والمقصود هنا بالأخلاق ليس فقط مجرد الابتعاد عن المحرمات بل إظهار السلوك الإسلامي الحميد في كافة المناحي. وهذا ما يشكل بمجموعه معايير يحكم بها المجتمع المسلم على البنك بحكم أنه إسلامي.
ومن أهم المعوقات التي تواجه البنوك الإسلامية في التزامها الأخلاقي الإسلامي أنها تعمل في نظام رأسمالي له قيمه الأخلاقية التي تختلف في كثير من معطياتها جذرياً عن الأخلاق الإسلامية. فالرأسمالية تنظر إلى الأمور من منظور مادي بحت مؤطر بإطار من الحرية المطلقة ومستند إلى فلسفة المصلحة الفردية (self-interest)، وعليه فإن الهدف السامي لأي مدير رأسمالي هو تحقيق الربح وفاءاً بعقد الوكالة بينه وبين الملاك الرأسماليين الذي لا يهمهم إلا الربح. أما بالنسبة لنا نحن المسلمون، فلدينا هدف آخر غير الهدف المادي الدنيوي.. وهو إرضاء الله جل وعلى من أجل تبوء درجات أفضل في الآخرة.
وما يثير الانتباه، أن اقتصار دور البنوك الإسلامية على الربحية فقط ولا شيء سواها أصبح يروج له من قبل بعض الباحثين والمنظرين للبنوك الإسلامية دون التطرق إلى الوسائل والعمليات التي يتم من خلالها تحقيق الربح. ودون الحديث عن الإساءات التي تنتج عن الممارسات الخاطئة التي ترافق"الحلال" في كثير من الأحيان.
ففي دراسة أجراها الباحثان (حنفي و حبيب) ونشرت في مجلة (Journal of Business ethics) عام 2007 حول الهوية الإسلامية للبنوك "الإسلامية" وشملت سبعة بنوك إسلامية خليجية توصل الباحثان إلى أن هناك بنك إسلامي واحد فقط حصل على معدل فوق المتوسط في حين أن البنوك الستة الباقية عانت الكثير من الفارق بين ما يظهروه من إفصاحات "والهوية الإسلامية المثلى". وقد أجرى الباحثان دراستيهما على الإفصاحات في التقارير السنوية للبنوك السبعة ولمدة ثلاث سنوات بالمقارنة مع مؤشر معياري لبعض أخلاقيات البنوك الإسلامية. واشتمل مؤشر الباحثين على خمسة أمور: الالتزام تجاه المجتمع، والإفصاح عن الرؤية والرسالة، والإسهام في الزكاة وإدارتها، والأعمال الخيرية والقروض الحسنة، والمعلومات المتعلقة بالإدارة العليا. وقد فصل الباحثان في مكونات المعايير الخمسة السالفة الذكر للوصول إلى النتائج الإحصائية للدراسة.
ورغم أن أخلاق البنوك الإسلامية لا تقتصر على المؤشرات أعلاه، إلا أن الاطلاع على نتائج هذه الدراسة يوحي لنا بالكثير من المؤشرات التي يمكننا أن نستند إليها في تحليل الفجوة الأخلاقية بين كلمة إسلامية كما تنظر إليها المجتمعات ومسمى "إسلامية" الذي تحمله البنوك. فدراسة الباحثين تستند إلى تحليل الإفصاحات في التقارير السنوية وهذا بحد ذاته يمكن أن يكون مرتبط بخلل في استراتيجيات ومنهجيات الاتصال التي تنتهجها تلك البنوك.. بمعنى آخر، أنها من الممكن أن تكون بالفعل ملتزمة بالهوية الإسلامية إلا أنها تعاني من خلل في تواصلها مع مجتمعاتها.. وهذا أمر لا يجب قبوله كعذر لتلك البنوك. فالتقارير السنوية تعد من قبل موظفي البنوك وتخضع لآليات عمل وموافقات ومصادقات من أطراف متعددة تتسلسل من معدي التقارير الصغار لترتقي إلى الإدارة العليا التي تصادق عليه وتمهره بخاتمها على أنه صالح للنشر. ومن هنا فمن الواضح أن التركيز وكل التركيز لا يكون على إظهار الهوية الإسلامية بل على إظهار البيانات المالية بما يتناسب مع الطموحات الرأسمالية للإدارة والملاك. أي أننا عدنا لمربع القيم الرأسمالية وليس القيم الإسلامية.
ماذا لو انتهت الرأسمالية؟
ربما يظهر أن هذا السؤال ليس في محله، لأننا لسنا بصدد مناقشة ما يجب أن تتبناه الحكومات. أو أنه ليس منطقياً على اعتبار أن الرأسمالية هي النموذج الاقتصادي السائد في العالم. لكن تجدر الإشارة إلى أن ما يشهده العالم العربي من أمور على الساحة السياسية لها امتداد اقتصادي واجتماعي يرتبط بالرأسمالية. لقد كانت الرأسمالية سائدة في أمريكا اللاتينية إلى أن غيرتها بعض شعوبها إما عن طريق الثورات أو عن طريق الديمقراطية.
ما يهمنا الآن هو، ماذا كان سيفعل أي بنك إسلامي متواجد في فنزويلا قبل أن تتحول ديمقراطياً إلى دولة اشتراكية ترفض كل مظاهر وقيم الرأسمالية؟ ولسنا هنا لنروج للاشتراكية، بل لنضع أمام صناع القرار سيناريو هام جداً وإن كان يبدو على أنه بعيد المنال إلا أنه قابل للحدوث في زمن التغيرات المتسارعة. وفي مثل تلك الحالة، هل ستقوم مؤسسات البنية التحتية بوضع معايير جديدة تحت عباءة الاشتراكية؟؟ ونبدأ من جديد رحلة التدرج في المأسسة المرقعة؟؟؟!!! وهل من الممكن أن نرى حينها مخارج شرعية تتناسب مع ما يريده الرفاق؟؟
زمزم في بلدي لكن من    يقنع الناس بجدوى زمزم